سورة غافر - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)}.
التفسير:
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}.
هو لقاء مع الناس، بهذا العرض الكاشف لقدرة اللّه، وتفرّده بالخلق والأمر، بعد أن شهدوا صورا من مشاهد القيامة، وما يلقى المؤمنون من إحسان ورضوان، وما يلقى الكافرون من خزى وعذاب.. فمن كان من المؤمنين ازداد بهذا اللقاء إيمانا، وتمسكا بما هو فيه، من طاعة وهدى، ومن كان من أهل الكفر والضلال، فليطلب لنفسه النجاة والسلامة، وليعد إلى اللّه من قريب.. فهذه هى الفرصة التي كان يتمناها أهل النار، ولا يجدون سبيلا إليها.
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ} إشارة إلى هذه الآيات التي كشفت عن أحوال الناس، وبينت لهم ما هم فيه من استقامة وعوج، فيعرف كلّ ما يأخذ وما يدع، مما هو خير له، وأصلح لشأنه.
وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً} إشارة إلى ما يسوق اللّه سبحانه وتعالى إلى العباد من رزق، وأن خير هذا الرزق وأعظمه هو هذا الكتاب الكريم، الذي بين يدى هذا النبي الكريم.
وقوله تعالى: {وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} أي لا ينتفع بهذا الرزق، ولا يحصّل منه ثمرا طيبا إلا من يرجع إلى هذا الكتاب، ويعرض نفسه عليه، فيكون له فيه نظر واعتبار.
قوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}.
هو دعوة إلى المؤمنين أن يمضوا في طريقهم الذي استقاموا فيه على عبادة اللّه، وعلى إخلاص العبودية له وحده، دون أن يلتفتوا إلى موقف هؤلاء الكافرين وإلى كراهيتهم لهذا الطريق أن يسلكه المؤمنون.
قوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره هو، اللّه سبحانه وتعالى.. أي أن اللّه سبحانه وتعالى هو الكبير المتعال، ذو العرش والسلطان، المتفرد بهذا المقام العالي، والسلطان العظيم، لا يشاركه أحد، ولا ينازعه سلطان.
{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} الروح، هو القرآن الكريم، وإلقاؤه: نزوله.. أي أن اللّه سبحانه هو الذي ينزل هذا القرآن وحيا منه بأمره، على من يشاء من عباده، والمراد هنا، هو رسول اللّه، صلوات اللّه وسلامه عليه.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا} [52: الشورى].
وقوله تعالى: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} أي لينذر الرسول الناس، {يَوْمَ التَّلاقِ}، وهو يوم القيامة، الذي يكون فيه لقاء اللّه، للحساب والجزاء.
قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ.. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ}.
هو بيان ليوم التلاق، وهو يوم القيامة يوم هم بارزون أي ظاهرون، ظاهرا وباطنا، قد انكشفت سرائرهم، وظهر مستورهم: {لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ}.
كما يقول سبحانه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ} [18: الحاقة].
والمراد ببروز الناس، وظهور حفاياهم في هذا اليوم، هو ما يشهدون بأنفسهم مما انطوت عليه سرائرهم، وما أخفاه بعضهم عن بعض.. ففى هذا اليوم ينكشف كل مستور منهم، لهم، ولغيرهم، كما يقول سبحانه: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ} [9: الطارق].
أما علم اللّه سبحانه وتعالى، فهو علم كامل شامل، لا يحدّه زمان ولا مكان.
وقوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟} هو سؤال بلسان الحال، حيث يظهر سلطان اللّه عيانا لأهل الحشر، مؤمنهم وكافرهم.
وقوله تعالى: {لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ} هو جواب بلسان الحال أيضا.
حيث لا جواب غيره.
وفى وصف اللّه سبحانه وتعالى بالوحدانية والقهر- إشارة إلى هاتين الصفتين اللتين يتجلى بهما اللّه سبحانه وتعالى في هذا الموقف، حيث يتصاغر كل سلطان ويخفت كل صوت، ويذلّ كل جبار.، كما يقول سبحانه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [111: طه].
قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ.. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ}.
ومع تفرد اللّه سبحانه وتعالى في هذا اليوم بالوحدانية المطلقة، والسلطان القاهر، فإنه سبحانه، لا يسلط سلطانه وقهره وجبروته على أحد من خلقه، بل إن عدله ليقوم إلى جانب قهره وجبروته، فلا يظلم أحدا، {لا ظلم اليوم}.
بل إن كل نفس بما كسبت رهينة.. {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ}.
لا يشغله شأن عن شأن، ولا يعوقه حساب أحد عن أحد، حتى يتصور أن يقع ظلم، أو خطأ في حساب هذا الجمع العظيم من المحاسبين.: وهذا- واللّه أعلم- هو السر في ذكر هذا القيد الوارد على نفى الظلم {لا ظلم اليوم}.
حيث هذه الحشود الكثيرة التي تحاسب في هذا اليوم.. فإنه مع هذه الحشود من الأمم في هذا اليوم، فإنها تحاسب حسابا سريعا، بلا معوّق.. إذ كان اللّه سبحانه وتعالى يعلم بعلمه كل شىء.. قبل الحساب، وأثناء الحساب، وبعد الحساب.
قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ}.
هو خطاب للنبى الكريم بإنذار قومه، بما أوحى إليه عن يوم التلاق، وهو يوم الآزفة.. أي يوم الساعة الآزفة، أي القريبة.
وقوله تعالى: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ}.
{إذ}، ظرف.. بدل من يوم الآزفة.. والحناجر: جمع حنجرة، وهى الغلصمة في أعلى الزور، والكاظم: المأخوذ من كظمه، أي منمخنقه.. يقال كظم القربة أي ربط فمها، ومنه كظم الغيظ: أي حبسه في الصدر.
والمعنى: وأنذر الناس- أيها النبي- وحذرهم يوم القيامة وقد أزف، وهو يوم عظيم، تختنق فيه الأنفاس، وتضيق الصدور، وتجف القلوب وتضطرب، حتى لتبلغ القلوب الحناجر في خفقها واضطرابها.
وقوله {كاظمين} حال من أصحاب القلوب.
وقوله تعالى: {ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ}.
أي ليس للظالمين في هذا اليوم العظيم، من صاحب أو صديق يعين، أو من شفيع تقبل شفاعته فيهم.
قوله تعالى: {يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ.. وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ.. إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
خائنة الأعين: أي نظرة العين تكون عن خلسة، لا يراها الناس، ولا يعلم بها المنظور إليه.
وقوله تعالى: {يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ} هو تعليل لما في الآية السابقة من وعيد للظالمين الذين أنذروا بيوم القيامة، وما فيه من أهوال، وأن الذي سيحاسبهم هناك هو اللّه سبحانه، الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون، لا تخفى عليهم منهم خافية، ولا يردّ عنهم بأسه أحد، ولا تقبل فيهم عنده شفاعة من أحد.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أي أنه سبحانه- مع بأسه، وسلطانه لم يظلمهم، بل وفّاهم جزاء أعمالهم، ولم يظلموا مثقال ذرة، لأن الذي قضى بهذا الحكم فيهم، هو اللّه، واللّه لا يقضى إلا بالحق.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} أي أن هؤلاء الذين يعبدهم المشركون من دون اللّه، لا يقضون بشىء، أي لا يحكمون بحق أو باطل.
لأن الذي يحكم، هو الذي يملك، وهم- أيّا كانوا- لا يملكون من الأمر شيئا {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [19: الانفطار] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي إن اللّه سبحانه، إذ يقضى فإنما يقضى عن علم.
وإذ كان السمع والبصر، هما المصدران لكل علم ومعرفة يحصّلها الإنسان، فإن اللّه سبحانه وتعالى هو {السميع} الذي إليه يرجع كل مسموع.. {البصير} الذي يردّ إليه كل ما يبصر.


{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَ وَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ}.
أي ما شأن هؤلاء المشركين، وكيف يقفون هذا الموقف العنادىّ الذي هم فيه مع النبي؟ ألم يعلموا ما أخذ اللّه به الظالمين قبلهم؟ وأ لم يسيروا في الأرض، وينظروا كيف كانت عاقبة هؤلاء الظالمين، وكيف نزل بهم بلاء اللّه، وقد كانوا أقوى قوة من هؤلاء المشركين، وأكثر أثاثا ورئيا، وأعز سلطانا ونفرا؟
والآثار في الأرض: التأثير فيها بالعمل في وجوه العمران.. فيكون ذلك آثارا باقية بعدهم.. والواقي: المدافع، والحامى قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ} {ذلك} إشارة إلى هذا البلاء المهلك، الذي أخذ اللّه به الظالمين، وأنه بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم {بالبينات} أي بالآيات البينة المعجزة، فكذبوا بهذه الآيات، وكفروا باللّه- فكان هذا الهلاك جزاء لهم على كفرهم.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ} إشارة إلى أن قوة هؤلاء الأقوياء، هى ضعف وخذلان، أمام قوة اللّه التي لا تدفع، وأن عذابه شديد لا يعدّ هذا العذاب الذي يسوقه الظالمون إلى ظالميهم، شيئا، بالنسبة إلى عذاب اللّه الذي يسوقه إليهم.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ} وهذا مثل من أمثلة الظالمين، الذين لو نظر هؤلاء المشركون إلى الوراء قليلا لرأوا صورتهم ممثلة فيهم.. فهم وفرعون على سواء في الغطرسة، والكبر، والعناد.
والقرآن الكريم يجمع كثيرا في قصصه، بين المشركين من قريش، وبين فرعون، لما بينهم وبينه من مشابه كثيرة، من كبر، وأنفة، وجاهلية مغرورة حمقاء.
والآيات البينات: هى المعجزات التي كانت مع موسى، من العصا، واليد.
والسلطان المبين: هو الاعجاز القاهر الذي بين يديه من هذه المعجزات.
هذا، وقارون وإن كان من قوم موسى، إلا أنه أضيف إلى فرعون، إذ كان على شاكلته، في الاستعلاء، والطغيان.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ}.
أي أن فرعون وشيعته، حين استقبلوا هذه الآيات التي طلع بها موسى عليهم، لم يتوقفوا عندها، ولم ينظروا فيها، بل أسرعوا بهذا الاتهام الذي رموها به، فقالوا ساحر كذاب.
ثم إنه لما جمع فرعون السحرة، ليبطل بهم سحر موسى- كما زعم- والتقى موسى والسحرة، وأبطل كيدهم، فلم يملكوا إلا الإذعان للحق، والإيمان به- عندئذ لم يجد فرعون إلا أن يفزع إلى قوته وسلطانه، بعد أن سقطت حجته، وبطل اتهامه، فأقبل على من آمن بموسى من السحرة وغيرهم، يصبّ عليهم سياط النقمة والبلاء، فيقتل أبناءهم أمام أعينهم، ويستبيح حرماتهم باستحياء نسائهم، فلا يرعى لحرّة حرمة.
فقوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا} إشارة إلى ظهور الحق عيانا لهم، بحيث لا تنفع معه المكابرة وقوله تعالى: {وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} إشارة إلى أن ما يكيد به الكافرون للمؤمنين، وما يأخذونهم به من ألوان البلاء والعذاب، هو من الأباطيل، التي لا يجد لها المؤمنون أثرا إلى جانب ما ملكوا من إيمان، هم معه في عزة في الدنيا، وسعادة وفوز برضوان اللّه في الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان السحرة، بعد أن دخل الإيمان في قلوبهم: {قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى} [72- 73 طه] قوله تعالى: {وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ}.
فى الآية السابقة سلّط فرعون وهامان وقارون أعوانهم وجنودهم على المؤمنين، يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم: {فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ}.
أما موسى نفسه، فإن فرعون وحده، هو الذي سيتولى أمره، وذلك ليظهر للناس أنه القادر على ما عجزت عنه السحرة مجتمعين، وأنه إذا كان السحرة- وما معهم من سحر- قد خافوا موسى، وأسلموا له، فإن فرعون سيقتله قتلا، لا يخشى ما معه من سحر.. بل إنه لا يخشى ربه الذي يقول إنه رسول من عنده، وأن ربه هو الذي وضع بين يديه هذا الذي سحر الناس به!.. إنى سأقتله، فليلقنى بما معه من سحر، وليدع ربه ليخلصه من يدى.
{وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى}.
أي دعوا موسى لا تقتلوه أنتم، بل إننى أنا الذي سأتولى قتله.
والسؤال هنا: إن أحدا لم يعرض لفرعون، ولم يحل بينه وبين ما يريد في موسى.. فما السر في أن يقول هذا القول: {ذرونى} أي اتركوني؟
وهل أراد فرعون شيئا يفعله بموسى ثم عرض له أحد دونه؟ وهل يجرؤ أحد أن يعترض طريق فرعون إلى ما يريد؟.
ما السرّ إذن في قوله هذا: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى}؟.
الجواب- واللّه أعلم- أن هذا القول من فرعون يكشف عن خوف كان مستوليا عليه من موسى، ومن أن خطرا داهما يتهدده من جهته.
فلقد كان يعلم- بعد أن رأى ما رأى من المعجزات- أن موسى يستند إلى قوة لا قبل لأحد بها، وأنه لو أراد بموسى شرّا لما استطاع، ولأصابه هو بلاء عظيم.. إنه كان على يقين بأن موسى على حق، ولكن الغطرسة، والكبر، وحب التسلط والسلطان- كل أولئك قد جعله يؤثر ما هو فيه من ضلال على هذا الحق الذي يدعى إليه.
فقول فرعون: {ذرونى أقتل موسى} يشير إلى أن شيئا ما بداخله، يمسك به، وأن مشاعر خفية تلقاه بالتخويف والتحذير كلما هم أن يبطش بموسى، ويخلص من هذا الخطر الذي يتهدده منه ومن سحره.. وكأن فرعون بقوله:
{ذرونى أقتل موسى} إنما يتحدث إلى هذه المشاعر التي تغلّ يده، وتحول بينه وبين ما يشتهى من الانتقام من هذا العدو المخيف!.
وفى قوله: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} ما يشير إلى هذا الخوف الذي يملأ كيان فرعون، أكثر مما يشير إلى الاستخفاف، وعدم المبالاة.
وفى قوله: {إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ} ما يكشف عن وجه من وجوه المخاوف التي تعيش مع فرعون من جهة موسى.. ولهذا فإنه يريد أن يتحمل هذه المخاطرة، ويقدم على قتل موسى.
أيّا كان الثمن الذي يقدمه من أجل هذا.
قوله تعالى: {وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ}.
هذا ما يلقى به موسى تهديد فرعون له بالقتل.. إنه يلوذ بحمى ربه من طغيان هذا الطاغية، فهو- سبحانه- القادر على أن يرد بأس هذا الجبار المتكبر، الذي لا يؤمن باللّه، ولا يخشى حسابه وعقابه.
وخطاب موسى في قوله: {وربكم} هو خطاب للمؤمنين، الذين يتهددهم فرعون كما يتهدده.. فهو بهذا يدعوهم إلى أن يعوذوا باللّه من هذا الجبار- المتكبر، وأن يسلموا أمرهم إليه، وأن يصبروا على ما يلقون من أذى وضر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [128: الأعراف].


{وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)}.
التفسير:
مؤمن آل فرعون.. أنبيّ هو؟
ذكرنا في سورة يس عند تفسير قوله تعالى: {فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ} أن هذا الثالث يرجح- في رأينا- أن يكون هو مؤمن آل فرعون، وأن موسى وهارون هما الاثنان المشار إليهما في قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما}.
ونريد هنا أن نستشهد لذلك بما تحدث به هذه الآيات من أمر هذا العبد المؤمن من آل فرعون.. ففى الآيات دلالات كثيرة، تشير إلى أن هذا المؤمن، كان إلى جانب إيمانه، داعية يدعو إلى اللّه، معزّزا ومؤيدا الدعوة التي يدعو بها موسى وهرون.
ففى قوله تعالى: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ.. وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}.
فى هذا ما يكشف عن وجه هذا المؤمن:
فهو- أولا- {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}.
أي من آل بيته، ومن الرؤوس البارزة في دولة فرعون.. فقد يكون أميرا، أو وزيرا، أو قائد جند.
ونحو هذا.
وهو- ثانيا- {يَكْتُمُ إِيمانَهُ}.
وكتمان الإيمان هنا، ليس عن ضعف أو خوف، حتى يحمل إيمانه على أنه كان مجرد إعجاب بموسى، وميل إلى الطريق الذي هو عليه، إذ لو كان غير منظور فيه إلى شيء آخر، لآمن كإيمان السحرة، ولما منعه بطش فرعون وجبروته أن يعلن هذا الإيمان، متحديا فرعون، مستخفّا بكل ما يلقى في سبيل الحق، والجهر به.. وكلا.. فإن إيمان هذا المؤمن كان إيمانا راسخا وثيقا، قائما على اقتناع بلغ مبلغ اليقين القاطع.. وإنما كان كتمان هذا الإيمان عن سياسة حكيمة، وتدبير محكم.
كما سنرى.
فالرجل لم يكن يريد الإيمان لنفسه وحسب، بل إنه كان يريد أن يكون داعية لفرعون وقومه جميعا إلى الإيمان باللّه.. ولو أنه أعلن إيمانه، وجاء إلى فرعون يدعوه إلى أن يؤمن كما آمن هو، لما استمع فرعون إلى كلمة منه، ولأخذته العزّة بالإثم، وأبى عليه كبره وعناده، أن ينقاد لداعية يدعوه إلى أي أمر، ولو فتح له أبواب السماء.. وهل أتى المكذبون برسل اللّه إلا من دعوة الرسل إلى متابعتهم، والإيمان بالإله الذي سبقوهم إلى الإيمان به؟ وهل كانت مقولة المكذبين برسل اللّه إلا ترجمة لهذه المشاعر، التي تملأ صدور المكذبين أنفة وكبرا أن يكونوا متابعين لغيرهم، مسبوقين غير سابقين؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان هؤلاء المكذبين: {ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [24: المؤمنون] وقوله سبحانه: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [111: الشعراء]. وقوله جل شأنه على لسان فرعون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} [47: المؤمنون].
ثم ماذا لو أعلن الرجل المؤمن إيمانه، ثم جاء إلى فرعون يدعوه إلى الإيمان؟ أكان شأنه معه إلا كشأن موسى وهرون؟ بل إن موسى وهرون معهما من آيات اللّه المعجزة القاهرة ما يؤيد دعوتهما.. أما الرجل فلم يكن معه إلا منطق العقل، وحجة الكلمة.. وهل لفرعون عقل يقبل منطقا، أو أذن تصغى إلى حجة؟
لقد كان من تدبير الرجل المؤمن، وهو رجل سياسة وملك- أن يجلس إلى فرعون المجلس الذي اعتاده منه.. مجلس إبداء الرأى، وعرض النصيحة، في معرض تبادل الآراء، وتقليب وجوهها.. لا أكثر ولا أقلّ.. ومن هنا يكون للرجل أن يقول ما يشاء من آراء، ويبدى ما يرى من حجج، وأن يجد لذلك من فرعون أذنا تسمع، وعقلا يعقل.. وإنه لا بأس على فرعون أن يأخذ بالرأى الذي يخلص به من بين تلك الآراء.. إنه حينئذ يكون هو الذي يعطى الرأى ولا يأخذه، ويصدر الحكم، ولا يتلقاه!! ومن هنا نجد الرجل المؤمن- بهذا التدبير الحكيم- قد استطاع أن يعرض قضية الإيمان باللّه، في وضوح وجلاء، وأن يقدمها إلى فرعون في جو هادىء، لا تعكر صفوء الأعاصير المحملة برجوم الردع والتحدّى.
وفى هذا يقول تعالى على لسان الرجل المؤمن:
{وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ؟ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ}.
إن فرعون وملأه يأتمرون بموسى ليقتلوه. وهم يعدّون التهمة التي يأخذونه بها. والتهمة عند فرعون، أن موسى يريد أن يبدّل دين القوم، وأن يفسد المجتمع، بما يثير فيه من فتنة وانقسام وفرقة، إزاء هذا الدين الجديد.
وهنا يبدى هذا الرجل المؤمن- وقد كتم إيمانه- يبدى رأيه، فيقول وأية جناية جناها موسى؟ إنه يقول: ربّى اللّه.. هذا دينه الذي يدين به، ويدعو إليه، بلا قهر ولا قسر.. فهل هذه الدعوة تستوجب قتله وسفك دمه؟
لا أرى ذلك..!
ثم إن هذه القولة التي ينادى بها موسى، تستند إلى آيات بينات، قد رأيناها رأى العين، وقد بطل بها سحر الساحرين.. وهذا يعنى أنها من عند إله قوىّ فوق آلهتنا كلها.. فإذا آمن موسى بهذا الإله، وتلك حجته القاهرة بين يديه على قوة معبوده الذي يعبده- فهل نستحلّ لذلك دمه؟ {وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ} الذي آمن به.. فهو يؤمن بإله له دليله عليه، ويدعو إلى عبادة إله وضع بين يديه الحجة التي تؤيد دعواه.. فكيف ندينه، وهو برى ء؟
ثم ماذا لو تركناه وشأنه؟ إنه: {إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ}.
إنه يسير في طريق اختاره لنفسه، فإن يهلك فلن يهلك إلا هو، وجنايته على نفسه وحده، لا تصيب أحدا غيره!.
ثم- من يدرى؟- فقد يكون الرجل صادقا فيما يقول، وشواهد الصدق بادية فيما نرى.. فماذا لو انتظرنا، ثم نظرنا في دعوته هذه، وعرضناها معرض الدراسة والبحث.. فقد نجد فيها خيرا، وقد ينكشف لنا منها هدى ونور.
وهل ثمة من بأس علينا إذا وجدنا خيرا فأخذنا بحظنا منه؟ أو رأينا هدى ونورا فاتجهنا نحو هذا الهدى والنور؟ {وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}.
إنه لا بأس إذن من أن ندع موسى، ولا نعرض لقتله وسفك دمه، سواء أخذنا بما يدعو به أو لم نأخذ.. فلندعه يمضى في طريقه، فإن كان كاذبا مدّعيا فإنه لن يفلح أبدا.. فما كان الكذب مركبا إلا إلى البلاء وسوء المصير.
فكيف إذا كان يكذب على اللّه الذي يقول إنه رسول من عنده؟ {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}.
ويمضى الرجل المؤمن في عرض رأيه ومشورته، فيحذّر القوم من أن يقدموا على ما هم عازمون عليه، في شأن موسى.. فقد يكون الرجل صادقا، ودلائل الصدق بادية فيما جاءهم به، وفيما حذرهم به من عذاب اللّه في الآخرة.. فإن هم أنفذوا أمرهم فيه وقتلوه، أيتخلّى عنه ربه هذا الذي رأينا بعض قوته فيما جاءهم به موسى من عنده؟ فكيف تكون الحال إذا قتلناه.. وهذا ربه، وتلك قوته؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان هذا المؤمن: {يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ.. فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟} ونعم.. نحن أولو قوة قادرة، وملك عظيم، وسلطان ظاهر غالب.. هذا ما نحن فيه الآن.
ولكن أيكون لنا من كل هذا ما يدفع عنّا بأس هذا الإله القوى، ويحول بيننا وبين نقمته؟
هذا رأيى، وتلك نصيحتى للملك، كما يقضى بذلك واجب الولاء والإخلاص، للملك، وللرعية..!!
وهكذا استطاع الرجل المؤمن، بحكمته وسياسته في كتم إيمانه، أن يلقى فرعون والملأ من حوله، بهذا المنطق الرزين الهادئ، في غلاف رقيق من النصح والمناصحة! ويطرق الملأ من آل فرعون، وقد دارت رءوسهم من هذا المنطق الواضح وما بين يديه من حجة وبرهان.. ثم تتحرك بعد ذلك شفاه، وتنطلق كلمات، تعلّق على هذا الحديث، بين آخذ به، ورادّ له.. ويدع فرعون القوم يجادل بعضهم بعضا، ويفنّد بعضهم مقولات بعض.. حتى إذا فرغوا مما عندهم: جاء إليهم من عل، في سلطانه، وما يحفّ به من جلال وهيبة، فيلقى إليهم بهذا الأمر الملكي:
{قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ}.
إنه ليس لكم عندى في هذا الأمر إلا ما رأيته من قبل، وما سمعتموه منى حين قلت لكم: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ}.
تلك هى كلمتى الأولى والأخيرة.. وإنها الكلمة التي فيها رشادكم، وحمايتكم من هذا الشر الذي يهبّ عليكم: {وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ}! فهل تشكّون في حمايتى، وحرصى على حفظكم ورعايتكم، وارتياد مواقع الخير لكم؟
وتؤذن هذه الكلمة بانفضاض مجلس المشورة، وما يكاد القوم يهمّون بالانصراف، حتى تمسك بهم نظرة من الرجل المؤمن، تريد أن تقول شيئا.
فيتلكأ بعضهم، ويهمّ آخرون، حتى إذا تكلم الرجل المؤمن، عاد المجلس إلى ما كان عليه.
وهنا يتابع الرجل المؤمن حديثه، ويصل ما انقطع منه، وكأنّ فرعون لم يقل شيئا، وكأن هذه الكلمة، ليست الكلمة الأخيرة في هذا الأمر. وتخرج الكلمات من فم الرجل المؤمن، متدفقة هادرة، تحمل نبرة عالية من الأسى والحزن والإشفاق.
{وَقالَ الَّذِي آمَنَ.. يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}.
بهذا الإيمان الذي يملأ قلب المؤمن، يجد الرجل منطقا يتسع له مجال القول، وتتداعى إليه الأدلة والبراهين، وتنحلّ به عقد الخوف واللجلجة في هذا المقام الرهيب!.
{يا قوم} بهذه الكلمة يمسك الرجل المؤمن جماعة المجلس حيث هم.
إنه يريد أن يقول شيئا، وإن قال فرعون كلمته، وأصدر حكمه! وما اعتاد القوم أن يسمعوا بعد حكم فرعون تعليقا ولا تعقيبا.. فماذا في الأمر؟
ألا فليسمعوا.
{إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ}.
إن هذا الحكم الذي أصدره فرعون، وقال لهم فيهم: {وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ} هو حكم إن أخذوا به، لم يسلموا من عواقبه.. إن وراءه شرّا مستطيرا.. إنهم يدبرون ليقتلوا رسولا من رسل اللّه، وإن عندهم لخبرا عما حلّ بالأقوام الذين آذوا رسل اللّه من قبلهم.. فإن هم مضوا على ما هم فيه من إلحاق الأذى بموسى، فلن يسلموا من أن يحلّ بهم يوم كيوم هؤلاء الأحزاب: قوم نوح وعاد وثمود والدين من بعدهم. وإنه ليوم عسير، لقى فيهم المكذبون برسل اللّه الدمار والهلاك. ويلاحظ هنا أنّه سمّى يوم الأحزاب يوما، مع أنه أيام، إذ كان لكل قوم يومهم الذي لاقوا فيه هلاكهم، وذلك لأن جريمة القوم واحدة، والحكم الذي أخذوا به حكم واحد.. فكأنهم أدينوا في يوم واحد، وإن تراحى الزمن بينهم، في إيقاع الحكم الواقع على كل من هؤلاء الأقوام والدأب: الشأن، والحال.
هذا، ما أخذ به المكذبون برسل اللّه من عقاب في الدنيا.. إنه الهلاك الجماعى، والدّمار الشامل لكل ما عمّروا وجمعوا.
وهناك عذاب آخر أشدّ وأنكى، ينتظر هؤلاء المكذبين.. هو عذاب الآخرة.
{وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ..}.
ويوم التّناد هو يوم القيامة، وهو اليوم الذي ينادى فيه الموتى من قبورهم، فإذا هم قيام ينظرون.. وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [41- 42: ق].
و{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} أي تلقون جهنم، فترتدون على أعقابكم، هلعا وفزعا.. ولكن لا عاصم لكم من أمر اللّه.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ}.
هو تعقيب على كلام الرجل المؤمن، وتصديق لما يقول.. نطق بذلك الحق، لسان الوجود كلّه.
ويمضى الرجل المؤمن يذكّر القوم، بنبىّ كريم، كان فيهم، هو يوسف عليه السلام.
{وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}.
إن ليوسف عليه السلام شأنا، وذكرا، في الحياة المصرية، وقد رأى القوم من آياته ما سمّوه من أجلها صدّيقا، فيقول له صاحب السجن:
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [46: يوسف].. ثم يرى منه فرعون والقوم معه هذه المعجزة التي كشف بها عن حلم فرعون، والتي قرأ عليهم فيها من صحف الغيب ما سيطلع عليهم من أحداث.. ثم رأوا منه هذه الآيات المعجزة في هذه التدبير المحكم الذي ساس به البلاد، وقاد به سفينتها إلى شاطىء الأمن والسلام، وهى في متلاطم الأمواج العاتية، وقد كانت وشيكة أن يبتلعها اليمّ.
ذلك هو يوسف، وتلك هى آياته البينات التي رآها آباؤهم منه.
ومع هذا فقد كانوا في شك منه.. بين مصدّق بدينه الذي يدعو إليه من عبادة اللّه الواحد القهار، وبين مكذّب متّهم له فيما عنده من علم، لا يتجاوز به في تقديرهم أن يكون ساحرا عليما.. وهكذا يمضى القوم مع يوسف، حتى يهلك، دون أن يجتمعوا على رأى فيه.. فلما هلك يوسف، وأفلت من أيديهم هذا الخير الذي كان ينبغى أن ينالوه على يديه، تطلعوا إلى هذه الشمس الغاربة من أفقهم في أسى وحسرة.. وانتظرا أن تطلع عليهم شمس أخرى في صورة يوسف جديد.. فلما طال انتظارهم جيلا بعد جيل، استيأسوا وصرفوا أبصارهم عن ترقبه، وقالوا في يأس وحسرة: {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}! وها هو ذا قد جاء الرسول، الذي كانوا يتطلعون إليه.. أفلا يرون في موسى وجها كوجه يوسف، فيما يدعو إليه من عبادة إله واحد، وفيما بين يديه من آيات بينات؟ وأ يقفون من موسى موقف الشك والارتياب الذي وقفه آباؤهم من يوسف؟ ثم هل ينتظرون رسولا آخر بعد أن يمضى موسى؟.
ذلك هو الواقع الذي هم فيه الآن.. فماذا هم فاعلون؟ وإلى أىّ متجه يتجهون؟ أإلى الشك والارتياب؟ أم إلى التصديق والإيمان؟ ذلك لهم.
ولهم ما يشتهون!
وقوله تعالى: {كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ.. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا.. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}.
هو تعقيب على هذا الموقف الذي بين الرجل وبين القوم.. وهو حكم على فرعون وملائه أنهم لن يهتدوا، ولن يخرجوا عما هم فيه من عمى وضلال.. إنهم في ارتياب شديد مسرف، فأسلمهم اللّه سبحانه إلى ارتيابهم، وتركهم في ظلمات يعمهون.. وإنهم ليجادلون في آيات اللّه، وليس بين أيديهم سلطان من حقّ يجادلون به، وكل ما معهم هو باطل وضلال، يلقون به آيات اللّه..!
وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا}.
أي كبر مقتا وبغضا هذا الجدل بالباطل، عند اللّه سبحانه الذي يكره الباطل ويمقت المبطلين، وكذلك المؤمنون، يمقتون الباطل وأهله.
وقوله تعالى: {كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}.
أي بمثل هذا الطبع والختم على قلب المتكبرين والجبارين، من فرعون وقومه- يطبع اللّه على قلب كل متكبر جبار من أهل الشرك، الذين يلقون محمدا بالشك والارتياب والتكذيب! وهكذا ينفضّ المجلس، دون أن ينتهى القوم إلى رأى في موسى، بعد أن لبستهم حال من البلبلة والاضطراب، من هذا النذير الذي طلع عليهم به الرجل المؤمن.. الذي يكتم إيمانه!!

1 | 2 | 3 | 4 | 5